مضى خوان قدما , وبدأ يودع مايوركا , اسواقها , بيوتها , شيوخها , واطفالها , وكان كل ما مر على اثنين متحابين , وقف يتأملهم بإبتسامة يشوبها الحزن والاسى , حتى كان في كل مرة يغلبه البكاء و يتناثر دمع مقلتيه دون ارادته , فيمضي راكضا هاربا , كطفل صغير فاقد امه , كانت تخطر على باله ايذا , وتلك الايام الايام الجميلة التي قضوها شوارع مايوركا واروقتها عاشقين سعيدين يعيشان بعالم اشبه بالجنة , لا تشوبه شائبة , لكن هذه هي الحياة لا تتغير , ان ما اسعدتك يوما , عادت و انتقمت منك لاحقا . فهي حقودة ملعونة , يغتر بها الناس , فيرتفعون يخيلائهم الى درجات السموات , فتقلبهم على اعقابهم بغفلة عين .. ركب خوان البحر , وبعد رحلة لم تكن بالسهلة , اخيرا حط في ارض كتالونيا و عندما نزل الى الشاطيء , تنفس نفس عميقا , وراح يتذكر ايام صباه..
---- قبل سنين طويلة مضت , حين كان خوان بالسابعة من عمره ----
خوان : ان هذه المدينة جميلة جدا يا ابي , ليتنا ننتقل فنسكن هنا , فأنا أعشق برشلونة .. ابتسم الصغير بينما كان يلتهم بعضا من البوظه..
أنجلو ( والد خوان ) : اااه يا صغيري العزيز , انا ايضا اعشق برشلونة , لكن صدقني يا بني , لا مثيل للوطن ..
وبعد وقت قضياه في السوق ... وصلا الى دكان بابلو للحدادة..
خوان : عمي بابلوووووو .. ركض ليحييه..
بابلو : اهلا يا صديقي , قد اشتقت اليك ايها الشقي هاااا .. حمله وقبله بحرارة..
انجلو : اااها , بابلو العجوز , امازلت على قيد الحياة ؟.. هاهاهاها
بابلو : اني بصحة افضل منك ايها الخرف , هه , ما رأيك ان تسحب سيفك فتبارزني , فنرى من العجوز ؟ هاهاهاها.. اقترب منه خوان , وقاما باحتضان بعضهما بلهفة..
بابلو : طالت غيبتك هذه المرة يا اخي ..
انجلو : تعلم , والدة خوان مريضة بعض الشيء , والسفر من مايوركا الى هنا يستغرق بعض الوقت..
بابلو : اااه , العزيزة فيولا , اني قلبي معها.. امازلت على رأيك ؟ لما لا ترجع الى هنا , فهنا مسقط رأسك و أبائك , هنا جذورك , وانت تعلم يا ابن عمي ان هذا الدكان كان لوالدينا رحمهما الله , فأنت شريكي فيه..
خوان : ابن عمي؟! ابي , ايكون العم بابلو صديقك ام ابن عمك ؟
انجلو : هاهاهاها , انه صديقي طبعا , لكنه يمزح , اذهب يا خوان والعب قليلا , فهناك حديث للكبار لا يجب عليك سماعه ,,, اعطاه بعض النقود و قبله على جبينه.. وما ان مضى خوان الصغير..
انجلو : بابلو !!! اتفقنا ان لا تأتي على ذكر هذا موضوع مجددا , ما جرى قد جرى , انه امر قد عفا عليه الزمن..
بابلو : اسف يا صديقي ,, لكني فعلا افتقدك , فقد عشنا اصدقاء ما يفوق الخمسة عشر عاما , الا تنسى ما قد جرى و كفى ؟؟؟
انجلو : دع الايام تفعل ما تشاء يا صديقي...
---- برشلونه الان ----
كان خوان يتمشى ببطئ شديد , كأنه لا يريد ان يصل دكان العم بابلو , فبعد انقضاء لم يرى فيها بابلو , لم يكن يعلم ما شعوره في هذه اللحظه..
خوان : اسعدتم صباحا ايها السادة..
رد رجل كان يضرب بمطرقته على بعض الحديد : اسعدت صباحا يا سيد..
خوان : اين العم بابلو ؟ لا اراه بينكم..
الرجل : ومن انت حتى تسأل عن العجوز بابلو ؟
خوان : انا رجل من مايوركا , خوان سانتوس دي ماريا ..
توقف الرجل عن العمل .. وقال : انت خوان سانتوس ؟ انت شريكي ؟
خوان مستغربا : شريكك ؟ انا خوان سانتوس , ولا اعرف من تكون انت او حتى ما اسمك لأكون شريكك !!
الرجل : اهلا بك يا ابن العم , اسمي فرانكو , وانا ابن العجوز بابلو ,,, مد يده ليصافحه..
خوان : ابن العم ؟ من من انت ؟ اين العم بابلو ؟
لم يجب فرانكو.. بل التزم الصمت , ونظر الى الارض حزينا...
----- في بيت العجوز بابلو----
كان بابلو مستلقيا في فراشه بعد ان اجهز عليه المرض , واصبح بصره يخفت شيئا فشيئا..
بابلو : اهلا بابني , اهلا بابن اخي العزيز ( انجلو ) , كيف حالك يا خوان ؟ كيف حالك ايها الصغير الشقي ؟ ههه..
خوان : اني مشتاق لك ايها العم بابلو , سامحني . فقد شغلني عنك اللهو وبعد ذلك الزواج , فلم ازرك منذ سنين طويلة ,,
بابلو : هييييه ايها الصغير , مازلت على شقاوتك ههه.. كم كنت مشتاق لرأيتك , كم وددت ان تصلح ما افسده اباك العزيز فتأتي هنا وتعيش معي , بجانبي , فتعوض علي فراق ابيك رحمه الله..
خوان : اذا انت تكون ابن عم ابي ..!
بابلو : نعم يا ولدي . لكن ارجوك , لا تسألني ما سبب هجرته الى مايوركا , سأدع ابني ( فرانكو ) يخبرك أثناء رحلتكما..
خوان : رحلتنا ؟
فرانكو : لكن , ابي ؟! لا استطيع تركك وحيدا هنا , ان حالتك...
بابلو : يا صغيري , اني احتضر , اليس هذا واضح لك ؟ ههه .. اذهب مع خوان ولا تكرر خطأي عندما سمحت لابيه بمغادرة برشلونه ولم استطع نأيه عن ذلك.. اذهب فأن خوان بحاجتك..
خوان : لكن يا عماه ..
بابلو : اذهبا الان واستريحا , دعوني استريح قليلا , فصحتي لا تسمح لي بالكلام كثيرا ههه..
خوان : طبت مساءً يا عماه , اتمنى لك نوما هنيئا..
بابلو : طبت مساء يا خوان... وبعدما مضو ,, قال بابلو في نفسه : مسكين يا خوان , تسير و يسير الموت معك ...
---- في غرفة نوم الشابين ----
فرانكو : اذا انت خوان سانتوس , حدثني ابي كثيرا عن ابيك , وكم كان يتمنى ان ترجعا الى هنا , برشلونه..
خوان : ما خبر ابوينا ؟ و ما سبب هجرة ابي ؟
فرانكو : اخبرك لاحقا يا صديقي .. متى عزمت على الرحيل ؟
خوان : في اقرب وقت , فإن خطوات ايذا على الخريطة بدأت تتسارع و تبتعد اكثر و اكثر ..
فرانكو : أتؤمن فعلا بما بين يدك ؟
خوان : أترى لدي حل اخر ؟
فرانكو : اني راحل معك يا خوان ..
خوان : لكن , وأباك العجوز ؟ لمن ستتركه ؟
فرانكو : ااااه , ان ابي يحتضر , وهو مازال على هذه الحالة منذ فترة طويلة, ولا اراه سيبقى على قيد الحياة لاكثر من ذلك ..
خوان : ...
فرانكو : لاترحل وتترك بابلو بعد ان انتظرك كل هذه السنين , فان ترحالك يعجل بموته ,,
خوان : ...
ظل خوان يراقب الخريطة بحسرة , ايذا , ماذا عساي فاعل ؟؟؟